ما أن أدخل مسرح “إيروين” الشاهد عبر الأعوام على إنتصارات مُتوقّعة لتاريخ رحل مُستأذناً وتوثيق بالغ الضخامة لمئات قصص رواها بعضنا خفية والبعض الآخر كتبها بشرايين أحاسيسه، خوفاً من أن تمر اللحظة من دون أن نعطيها حقّها، تهتف المخرجة لينا أبيض بأسلوب دراماتيكي يليق بهذه الأمسية:
“كأنو الماما فاتت معكي”.
إبتسامة صغيرة تُزخرف وجهها المحفور بأكثر من 40 مسرحية عالجت من خلالها أحكامنا المُسبقة على أنفسنا ومبالغتنا في التقليل من حجم كل ما مرّ علينا من ويلات.
فجأة، أحاول أن أتمالك نفسي. هذا المساء، يجب أن أوثّق تمارين مسرحية
“وداد – النملة يلي عم تحفر بالصخر” .
هذا المساء نُلقي تحية فأخرى لسيدة تدعى وداد حلواني، مازالت تبحث عن زوجها المفقود.
وعدها بأن يعود ذات مساء خلال الحرب الأهلية، وما زالت حتى الساعة تبحث عن رائحته وتتمسّك بغضبها عليه لكي تتأكد من أنها لا تزال على قيد الحية.
“كأنو الماما فاتت معكي”.

وأنا أحاول جاهدة أن أتمالك نفسي لكي لا يتحوّل هذا المشهد البيروتي قصّتي مع الرحيل وغضبي من الذين غابوا وما زلت حتى الساعة أبحث عن إستبدادهم لأعود إلى أحلامي .
تضحك أبيض مجدداً وتقول للممثلة الرائعة كريستين شويري التي تُجسّد شخصيّة السيدة الصغيرة الحجم التي قلبت المقاييس عبر الأعوام وتحدّت اللامبالاة والقمع:
“إمي وأمّا لهنادي كانوا يلعبوا ورق سوا”
“الدكتورة (كما كنا نناديها وهي والدة أبيض ) و”فيفي” (أمي)، صداقة إستمرت أكثر من 50 عاماً.
أجلس في الصف الأمامي لأتابع الأجواء. أحاول أن أفهم أسلوب أبيض في العمل. إنفعالات شويري الداخليّة تكاد تخنقها. وتخنقني منذ اللحظات الاولى إذ تمكنت بسرعة من أن تنقلها من الخشبة إلى مقعدي الصغير الذي حاولت أن أختبئ بين جدرانه الإفتراضية الآمنة.
إسترخاء أبيض يحضنها عندما تغضب وتطلب من المخرجة الكبيرة أن تسمح لها بالقليل من الحرية للتتنفس. تنظر أبيض نحوي ضاحكة:
“شفتي ال
Tension
بيناتنا؟ لذيذ المسرح. مؤلم. مرهق. بس حلو”.

تسمح لي أبيض بأن أصفق بسعادة عندما ينجح المشهد
ولا تتأثر من تدخلي غير المبرر ويستريح على تعلقي بهذه المسرحية قبل أن أشاهدها في صورتها الأخيرة.

الجامعة اللبنانية الأميركية هي المنزل الذي حضن دراستي في الإعلام وكان تذكرتي إلى رأس بيروت التي أدمنتها باكراً وحوّلتني بطلة روائية أفسدت الواقع بحثاً عن لحظة أدبية هاربة في كل تفاصيل الحياة المملة.
أتابع التمارين الأخيرة لمسرحية "وداد - النملة يلي عم تحفر بالصخر"
تبدأ شويري حوارها مع زوجها الذي رحل ولم يعد وأحاول أن أخفي عن أبيض دموعي التي إنهمرت لأنها في الواقع، قد تكون قصتي وقصة كل من نمر عليهم في الطريق من دون أن نعذب أنفسنا في التمعن في الفراغ الكامن خلف وجوههم الأقرب إلى أقنعة.
تعلّق أبيض بين لقطة وأخرى:
“بعد 40 مسرحية ليس لدي أي شيء لأثبته. يمكننا في هذا المشهد أن نكظم ميلنا إلى التدخل إخراجياً في كل جملة”.
تجلس على بعد بضع مقاعد مني وألتقط لها تلقائياً عشرات الصور في محاولة مني لأشرّح عشقها لقصة السيدة الصغيرة التي حافظت على حبها لرجل تعرف سلفاً أنه لن يعود.
لينا أبيض مرتاحة في المسرح. واثفة من قدرتها على إدارة شويري التي تكاد إنفعالاتها الداخلية تنفجر قصصاً على المسرح.
لا تستعجل عملية الخلق.

نظرتها ساكنة. ثاقبة. وملاحظاتها تشي بقدرتها على تشريح الطبيعة الإنسانية بما يُشبه التشريح الطبي.
تطلب من شويري أن تأخذ وقتها في ترجمة الإنفعالات. وشويري تغضب من نفسها عندما تنسى جملة محورية. تضحك أبيض وتساعدها بالتصالح مع أحاسيسها المستقرة في الحلق.
لينا أبيض تعرف جيداً أن قصة بهذا الحجم التراجيدي الشاهق تتطلب سيطرة مطلقة على الحزن والعواطف لنقل الفاجعة بدقة.
وشويري تكظم دموعها عندما نجلس معاً لدقائق معدودة خلال الإستراحة.

تحاول أن تروي لي ماذا حدث في الطريق إلى المسرحية.
“كنت مضغوطة. أصوّر أحد الاعمال. تحدثنا أنا ولينا ماضياً عن إمكانية تجسيد القصة على الخشبة: تقول لي، بدنا نعمل المسرحية. وبدنا نعمل المسرحية. آخر يوم تصوير لي في آخر عمل أنجزته كان قبل أيام. نعم قبل أيام. في اليوم التالي، تعلمني لينا بكل بساطة أننا سنبدأ العروض في العاشر من الشهر (حزيران الجاري). لم يكن النص معي. ما معي شي. ويوم الإثنين كنا قد بدأنا التمارين. واليوم، كما تعلمين هو السبت! بين يدي نص، لا مش نص: مجلّد بدي أحفظو! كميّة المعلومات …لا يمكنك أن تتخيلي راسي وين صار والضغط النفسي، والضغط العاطفي الذي لا يمكن أن يشعر به أحد ما لم يتعرف من كثب على وداد ليفهم تماماً كل ما حدث لها. كل ما مرت به. 50 عاماً من النضال والعذاب.”.
أتركها تستريح قليلاً عندما تستعد دموعها للإنفجار.
تهمس، “فهيك”
وأسمح لصمتها المدوي أن يكمل الدردشة.
تنقذنا لينا. تقترب مبتسمة.
تحاول شويري أن تكمل حديثها، “وداد بتاخد العقل.”.
أقول لها أنني أحببت لعبة الخلق بينها وبين أبيض. لعبة العاطفة والعقل.
تعلق شويري بسرعة،
“لينا عاطفية كتير، منا هينة أوعى تفكري. بس بتخبي”.

وبالنسبة إلى أبيض، فإن هذا المشروع كان مُرهقاً.
“من المشاريع التي أرهقتني. أعمل عليها منذ فترة طويلة. مع رائدة طه عملت أيضاً عامين قبل أن نعرض العمل ومع فيليب عرقتنجي أيضاً. ولكنني لم أشعر بهذا الكم من الإرهاق. هنا، إستنزفتُ عاطفياً. هي قصتنا جميعاً. حتى لو أنا، شخصياً لا أتعامل مع تراجيدية مخطوف سلب مني، كان من الممكن أن تكون قصتي. كما أن وداد من الشخصيات التي تؤثر بكل من يقابلها. عندما تفهمين وطأة العيش مع طيف من سلب من الذين يعيشون من خلاله تفهمين حجم الذي حصل. العمل مرهق. تشريح الطبيعة الإنسانية والبعد النفسي للذي حصل، يتطلب الدخول والتوغل والتعمق. أصعب شي للممثل والمخرج على حد سواء هو التلوين. أقول للتلامذة أفضل شيء يمكن للمخرج أو الممثل أن يقوم به هو التدقيق والتلوين. وهذا ما يجعل الجمهور أكثر إلتصاقاً بيوميات الشخصية وتفاصيلها الصغيرة.”
المسرح، بالنسبة لأبيض يطلب منا من خلال الخشبة أن نُظهر للجمهور التقلبات في المزاج والحالات والإنفعالات وطبيعة الجمل التي نقدمها له، والنبرة التي لا يمكنها أن تكون هي نفسها أكثر من مرة.
للممثل والحالة التي يعيشها أكثر من جانب.
وأبيض تصر على إظهار هذه الحالات من دون إستعجالها أو “حرق” مراحلها.
المسرح، بالفعل ألم مستمر ولكنه كما تؤكد أبيض، يكافئ جيداً صبر الممثل والمخرج.
“صباح اليوم، كنت أبكي. حسدي يؤلمني. جسدي مثقل من حملي للمسرحية والشخصيات والقصص المتراكمة . جسدي مثقل بالتفاصيل الدقيقة التي قد لا تظهر ولكنني أحملها. وجسدي الشاهد الأكبر على ذلك. اليوم كنت متعبة ولفظت بعض كلمات نابية. (تضحك) لعنت المسرح والحياة بالمسرح. هذا التعب المستمر. وفي الوقت عينه عندما وصلت ووجدت أن العمل في أحسن حال نسيت التعب. ولهذا السبب لم أختبر يوماً ال
Burnout
وهذه الحقيقة. لأن المسرح يكافئني في كل مرة. العمل مكافأة. التعامل مع الآخرين مكافأة. أختار الذين أحبهم لأعمل معهم. لا مانع لدي بأن أجلس مع كريستين (شويري) 5 ساعات متواصلة. أعمل مع أشخاص أريد أن أغوص بحياتهم. وأعني هنا حياتهم الفنية بطبيعة الحال. “


وداد حلواني لفتت نظر أبيض إلى كريستين شويري.
وعندما صار اللقاء الاول، ، أدركت أبيض فوراً أنها ستؤدي دور وداد. “إنغرمت. وكل الناس يقولون لي: ياي نيالك عم تشتغلي مع كريستين!”
التحضير على النص مستمر منذ أكثر من عامين.
“عملت كثيراً مع وداد. أجريت معها العديد من المقابلات. العديد أؤكد لك. أمسية فأخرى نتحدث خلالها 5 ساعات وربما أكثر. لا أستطيع أن أحدد عدد ال
voice notes
زوج “وداد” (ابراهيم خليل) حضر في المسرحية. وهي في حوار مستمر معه.
يخفف عنها وطأة الرحيل. وربما هي المرة الأولى خلال هذه السنوات ال50 التي سنعرف كيف يفكر، وكيف يتعاطى معها وإن كان في الواقع لم يعد يوماً. نسمع صوته. نلمس حنانه وهي تروي له كل ما يحدث في غيابه. تغضب عليه. تؤنبه. تلقي اللوم عليه. وهو، في مكان ما هناك يستوعب غليانها الداخلي.
الحوار بينهما في المسرحية لا يهدأ.


أرادت أبيض أن يكون المخطوف، هذه المرة، الحاضر الأكبر في القصة.
خلال الحوارات مع وداد، أكدت لها هذه السيدة التي لم تطلب من التاريخ أن ينصفها، بل هي من صفحت عنه، أنها تتحدث مطولاً مع صورة لزوجها، عدنان، الذي ينساب إسمه من بين دموع شويري بحسرة تثقل الكاهل.
وشعرت لينا بأنه بطريقة أو بأخرى، يُجيبها. عندما تعبر له عن إشتياقها للحظات قصتهما الصغيرة.
عندما تغضب منه.
“هو صدى حبها. لا تنتظر منه أن يطمئنها. النص الذي ينساب من مكان ما في المسرح بصوت عدنان (ابراهيم خليل) كتبته هبى سليمان، صديقتي التي تكتب الشعر الجميل. النصوص الشاعرية الخاصة بعدنان إحتاجت الهيام والعشق .”
وأبيض عالجت الكم الهائل من المعلومات التي إستخرجتها من عوالم وداد الداخلية ونقلت البعض منها إلى الخشبة.
لينا أبيض تعطي المساحة لشويري لتترجم هذه التقلبات الداخلية.
“إختياري لها يعني بالدرجة الأولى أنني أثق بها. وأنها خلاقة. وهي ستضيف لمساتها للعمل. بمجرد أن ينظر المخرج إلى أي شخص ويقول له: خذ مساحتك، يتحوّل تلقائياً إلى ممثل. الممثل أشبه بوردة. إذا (تفرجتي عليا) ستكبر وتصبح أكثر جمالاً.
في كل المسرحيات التي قدمتها أبيض، تختار أمسية تدعو فيها والدها الراحل الذي جسّد كيانه عالمها بأسره.
ووالدها الحاضر الأكبر في لعبة الحياة. أحياناً تتراكم فوق طيفه أثقال الحياة وزواريبها، “ولكنني ما أن أشعر بالتعب أو حتى عندما أريد أن أغادر سريري، أهتف: يا بيّي!”
أما الراعي الأكبر لهذا العمل الذي يوثّق فظاعة الحرب ونضال النساء الثائرات، فهي ميريام صفير، مديرة معهد الدراسات النسائية في العالم العربي في الجامعة.

فهي تبحث عن شتى السبل لتروي قصص كل إمرأة تخفي “حشمة قوتها” خلف الأيام.
تقول لي خلال دردشة سريعة:
منذ عامين إحتفل المعهد بعامه ال50.
وكان لا بد لها من أن تجد الطريقة الفضلى ليكون الإحتفال “على قد المقام”.
فكانت حياة ونضال وداد حلواني، ضمن عشرات المشاريع التي هي في قيد التنفيذ.
وبما أن صفير منبهرة بوداد وهذه الحياة التي عاشتها بلا تذمر أو إنكسار.
“هي بالفعل، كما يوحي عنوان المسرحية: نملة تحفر في الصخر. قضيتها التي ترتكز على المفقود والمخطوف وحدها في لبنان تمكنت من أن تجمع كل الطوايف والجنسيات . واستمرت. قضية إستمرت على الرغم من العراقيل، ولم تتمكن الايام من أن تحطم هيكلها”.
أمسية الإفتتاح. راس بيروت الجميلة بكل منحنياتها تستقبلنا بما يشبه الفرح.
الجامعة اللبنانية الأميركية تضج بالهمهمات.
عائلة صغيرة تلوّن سراب الأيام.
داخل القاعة يعلو الضجيج.

فجأة، تدخل سيدة صغيرة الحجم مسرح “إيروين”. تبحث عن احدهم. تبدو واثقة من نفسها ومع ذلك تظهر علامات الهشاشة من خلال حركات جسدها التي تبحث عن أحدهم.
ربما تبحث عن عدنان.
لتستمد بعض قوة منه.
أو ربما لتؤكد له بأنها ستقف بجانبه إلى أن ينتهي النضال على هذه الأرض ليكملا القصة، التي بُترت خيوطها الاولى ومع ذلك إستمر الحب.

أنا شخصياً، دعوت “الدكتورة وفيفي” من حيث تمضيان الأيام في رحاب الموت لنتشارك هذه الأمسية.
لم أتدخل في دعوة والد أبيض.
“زمطت” في التدخل بمشهد صغير خلال التمارين.
“بس مش راح زيدها”.
تعتلي كريستين الخشبة، وتنفجر بدخولها كل الإنفعالات التي كادت أن تخنقها خلال التمارين.








