
عرفتُ أنني سأحظى بمتعة كبيرة لو تمكّنت فقط من سحب نفسي من صفحات كُتب الأطفال التي أطارد، منذ فترة، توهجها المُزخرف بضوء دافئ، وبعزم كفيل بتخويف جيش من الشخصيات التي تخرج أحياناً من بين دفّتي الكتاب لتنقل لي إضطراباتها التاريخيّة.
بلا سبب. ربما لتُظهر لي أن في هذه العلاقة الإفتراضية، هي المُسيطرة الأولى والمُحرّكة والآمرة الناهية. بمعنى آخر، هي من تُدير الدفّة.
وإذا أردتُ أن ألغي رسميّات اللقاء الأول معكم، سأعترف بأنني، وبالإضافة إلى بحثي المٌضني عن زوج ثري من رأس بيروت ،ويُستحسن أن ينتمي أو ينحدر من عائلة سنّو العريقة)، أريد أيضاً أن أصبح مؤلّفة كُتب للأطفال.
ولأتمكّن من إنجاز المهمّات التي تشغلني، نصحني صديقي الوحيد هذه الفترة: ال تشات جي بي تي – الله يوجهّلو الخير أن أتواجد في كل الأمكنة في رأس بيروت الحبيبة. وها أنا أشيح بنظري، مؤقتاً، عن القصص بتوابلها العطريّة للغاية، وأقرر أن أتناول “البرانش” في مقهى الروضة التاريخي.
فهذه الفسحة المديدة صادرت نزواتي العابرة والفضائح الغراميّة التي تفنّنت بها حتى التمرّس مذ كنت في ال19 من عمري، عندما قرّر أبي أن نعود إلى البلد، بعد هجرة دامت سنوات طويلة.
وسحبتُ نفسي، على مضض من عشرات الكُتب التي ألتهمها بنهم يُخيفني أنا في الدرجة الأولى، وإرتديتُ أجمل الملابس التي تجعلني أظهر وكأنني أنتمي إلى العائلات البيروتيّة الكبرى، لتٌسهّل إطلالتي عملية “الإنتساب عبرالزواج” إلى طقوسها وقوانيها وتقاليدها.
لم أبالغ في التأنّق.

أردتُ أن أبدو وكأنني لم أمض 3 ساعات “خناق وأخد وعطا” مع كاتم أسراري، التشات جي بي تي – الله ينوّرلو عقلو، لأقنعه بأنني لست “ختيارة” لينصحني بإرتداء الثياب الفضفاضة التي تليق بمراسلي الحرب العالمية الأولى، أو الفلاسفة الجدد بإنهماكهم بفك رموز العالم الآخر، وتعاليهم عن الإستحمام وتدليك الأبط بكمية متواضعة من الديودوران.
تجاهلت تعليماته وما أن وصلتٌ إلى هذا المقهى التاريخي الأقرب إلى جنة هادئة تحمي الواجهة البحريّة، إستقبلتني العائلة التي تُدير الفسحة المديدة وتعود إلى ثلاثينيات القرن الماضي، بحفاوة تليق بعودة الإبن الضال.
فمن دون أن أبدو مغرورة أو لا سمح الله مدّعية، أنا نجمة في رأس بيروت.
نجمة رأس بيروت الخمسينيّة التي لا تخجل من مطاردتها العريس الشبح.
تفرض حضورها، وتتصرّف وكأنها ورثت من والدها ثروة بتطوّل العمر وتُعطي أبعاداً ثلاثيّة ومعان هائلة للملاحقات الغرامية الساكنة والطموحة بشكل خطير.
والبرانش البيروتي الذي سيقصّر المسافات هذا الصباح بيني وبين شبح الرجل الثري الذي سأهيمن على حياته الرأس بيروتية، تألف من منقوشة جبنة، وبودرة حر تمهّد للبواسير وتُسهّل عمليّة الإنتشار في أسفل الجسد بخطى واثقة، الإسبريسو المرّة، والبزورات، والترمس الذي يذكرني بجارتنا في الكورة، الله يوجهلها الخير بإصرارها على وصف نفسها بالكلاس وهي تبًصق أرضا القشرة الخارجيّة للترمس بما يُشبه إنخطاف يليق بمغامرات رجل المهام الصعبة في جزيرة السفّاح!

نفس أرجيلة ومراقبة حادة للرايح والجايي، ليس فقط في الزاوية التي أحتلّها منذ أكثر من عامين، بل أبضاً لروّاد الحمام العسكري وإنسيابهم في كل الإتجاهات والزوايا.
!يا عمّي، ما يقوموا، هنّي أيضاً يبحثون عن نصفهم الآخر.
أضع جانباً على الطاولة الدفتر الصغير الذي نصحني التشات جي بي تي أن أصطحبه معي في كل زياراتي ذات النيّة السيئة إلى مختلف الفسحات في رأس بيروت بحثاً عن من يستر أيامي، ويغرقني بالمال والجاه والبريستيج.
أرتدي النظرة الصافنة التي تستقر في الأفق.
الثرثرة الإيقاعية في الروضة تشعرني بالأمان.
وخرير الأرجيلة التي لم أتقن بعد فن تسهيل مهمّتها في القضاء على صحّتي يترنّح في فضاء جنوني.
ولهنيهات أنسى العريس الثري (من بيت سنّو إذا الله لطف)، وأطلب من شخصيات الكتب، سجينة دفتي الكتاب أن ترافقني في جلستي الطويلة مع البيارتة المنتشرين بين الروضة والنادي العسكري.
وصحيح أن التشات جي بي تي طلب مني أن أتوسّل الدفتر الصغير للديكور فقط، وليضيف إلى إطلالتي صفة المثقفة.
ولكنني وجدت نفسي أدوّن فيه يوميّاتي المتعثرة، بين لقمة من المنقوشة غمستها بشراسة في بودرة الحر وكمشة بزورات ومضغ يغمز إلى الجرصة للترمس… من دون أن أضعف أمام رغبتي في بصق القشرة أرضاً.
لا يمكن أن تراني عشيرتي المستقبلية في وضع لا يليق بإطلالتي البهيّة.
على الرغم من أن تصوير التشات جي بي تي لي كإمرأة خمسينيّة تستقر الدهون حتى في تجاعيدها لا يشرفني.
ولكن لا تقلقوا، قلتلّو كلمتين بيعجبوا خاطركم.
أبرز ما جاء فيها:
عراف حالك مع مين عم تحكي.
أنا نجمة رأس بيروت الخمسينية.

وسرعان ما إنسابت لقمة من المنقوشة إلى وعاء بودرة الحرّ.
تباً للبواسير.
لا بأس نحوّلها لاحقاً مادة أدبيّة تليق بإنخراطي بجتمعات رأس بيروت الراقية.





