بلد سري.
أقمشة منسوجة لامعة عالية الجودة تتميز بقصص معقدة.
والطريق إلى نيويورك بعيدة، كأحلام الصبا.
عماد خشّان يملك آخر منتدى للشطرنج في هذه المدينة التي أدمنها باكراً.
مدينة عشتها من خلاله، ومنعني الملل و”الطفر” من أن أختبر جنونها مباشرة.
إنها العاشرة والنصف صباحاً في بيروت، عزيزي عماد.
والطريق إلى بلادك السريّة بعيدة، تماماً كأحلام صبانا التي ضاعت منّا في فصل ما من هذه القصّة المخيفة في واقعيّتها.
أحد الكتّاب يهتف في خلفيّة هذا المشهد الملبّد بالرطوبة:
“لم نخلق لنكون سعداء”.
عماد خشّان يملك آخر منتدى للشطرنج في نيويورك.
ومنذ إنتقاله إلى شارع طومسون الشهير في “أواخر آب” من العام 1995، تبدّلت وجهة الرياح.
هنا، في هذا المنتدى الحميم، يعيش “بابا نويل” الذي يؤمن بالحياة ويؤمّن “للّعيبة”
كل ما يحتاجون إليه ليخوضوا معاركهم الداخليّة حول رقعة الشطرنج.
في تلك السنة كان للشطرنج دوره المحوريّ في مشهد المدينة الثقافي والإجتماعي.
إمتلأت الحدائق العامة برقعات الشطرنج، لاسيما الحدائق الذائعة الصيت ك
Central Park
و
Washington Square Park.
لكن – الّلعيبة – كانوا بأمسّ الحاجة لفسحة تحتضن هوسهم وتُسيّج جنونهم عندما تقفل هذه الحدائق أبوابها حوالي منتصف الليل.
وأيضاً عندما يحلّ الشتاء بقسوته الملوّنة بثوب الوحدة.
وصل عماد إلى شارع طومسون في العام 1995.
وتبدّلت ألوان ثوب الوحدة.
على حافة السحر بعض قصص “مسحوقة”.
الشموع إنطفأت فجأة.
والطريق إلى نيويورك بعيدة.
خطأ طفيف في التقدير، أوكّد لك يا سيدي.
وصل عماد في تلك السنة، “متل هالإيام”، إلى شارع طومسون. وصار المنتدى الذي كان من المفترض أن يتمحور على لعبة الشطرنج، الملاذ الحميم الذي يقطن فيه “بابا نويل الإيام الصعبة”.
الرجل
Of A Certain Age
الذي يخشى أن تكون الأيام قد غضّت الطرف عن “قامته المهيوبة”.
هو الذي يعود إلى منزله “آخر الليل” سيراً على القدمين، يُساعد كل مُشرّد “بما تيسر” (هذا المساء).
تُرافقه جرذان المدينة، وثمة من يقول انها تؤمّن له الحماية “ليوصل على البيت”.
لكنها قد تكون مجرّد إشاعة.
والطريق إلى المنزل طويلة.
وللمناسبة، عماد، لم أسألك يوماً عن عنوان منزلك.
على الأرجح أنك لن تفصح عنه.
هكذا أنت، لكل الذين صادفوا هالتك وطيبتك القاسية.
إنتقل عماد إلى شارع طومسون وكان المنتدى مفتوحاً 24 ساعة في اليوم، لسنوات طويلة.
زاره المشاهير والمُشرّد والثري و”ياللّي حالتو ع قدّو”.
أي شخص أدمن الحروب التي يخوضها يومياً “بينو وبين حالو”،
وهل أجمل من رقعة الشطرنج لترجمة هذه الحروب بأقل ضرر مُمكن؟
وٌلدت، بفعل هذا التفاني، “عائلة عماد” المؤلّفة من كل شرائح المجتمع.
وعلم الجميع منذ اليوم الأول، بأن ال
Chess Forum
سيبقى إلى أن يملّ عماد “من هالدني”، الملاذ الحميم الذي لا يطلق أي حكم مُسبق عليهم.
يتركون هموم العالم خلفهم ما أن يصلوا إلى عتبة المنتدى الذي يخوضون فيه أشرس حروبهم.
يستقبلهم عماد خشّان بفرح يخفي خلفه ندوب الأيام، فإذا بهم يخلعون عنهم وهم الغرور وسجن الخوف. ويضعون، تالياً غضبهم في يد هذا الرجل
of a certain age
بشخصيته الحكيمة.
صبره عليهم وعلى تقلّبات الأيام، يُذكّر بمنزل لم يحظوا به من قبل.
إقتحم عماد خشان شارع طومسون “متل هالإيام” من العام 1995، وفهم الجميع بأن عنده، يلعبون “شوية شطرنج”، ويشعرون ولو للحظات عابرة بأنهم ينتمون.
طوال سنوات طويلة، كان عماد يطلب منهم دولاراً واحداً مقابل كل ساعة “لعب”.
اليوم يدفعون 5 دولارات لكل ساعة يمضونها في المنتدى “اللامع بشكل مجيد”.
كبار السن يدفعون دولاراً واحداً.
إذا أردتم أن نُحدّد معنى “كبار السن”:
“يعني من قفز سن ال65”.
أما الاولاد، فيلعبون مجاناً.
ألم نذكر بأن “بابا نويل” يقطن المنتدى الذي يغمز ديكوره إلى المنازل القرويّة التي تدعونا إلى الحياة، نحن الذين نُراقص الموت وإن غضضنا الطرف عن هذه الحقيقة؟
وفجأة يهتف الكاتب الراحل
“لم نخلق لنكون سعداء”.
وفي العودة إلى شارع طومسون، إذا أردنا أن نكون أكثر دقّة، فإن كلمة “أولاد” بالنسبة لعماد قد تعني
“لحد عمر ال18!”.
هل يُعقل أن يملك “بابا نويل – شارع طومسون” كل هذه الطيبة والإنسانيّة؟
في منتدى الشطرنج هذا، 12 طاولة في الفسحة المخصصة للّعب.
أضف إليها طاولة في الفسحة الامامية للمنتدى حيث يجلس عماد ليستقبل “الرايح والجايي”، ويبيع أجمل رقعات الشطرنج وأكثرها غرابة وطرافة.
تمتلئ الطاولات خلال فصل الشتاء وفي عطلة نهاية الأسبوع.
أما في العطلة الصيفية، يستقبل المنتدى كبار السن والاولاد والعائلات.
كل الذين يهربون من الحرّ القاتل.
وبطبيعة الحال، يلعبون مجاناً.
وعماد، “على قلبه مثل العسل”.
بالنسبة لهذا الرجل الذي لا يعلم أحد عنوان إقامته الحقيقية، المهم أن يشعر الجميع بأنهم ينتمون إلى عائلة تجتمع حول المحبة وذاك اليقين بأنهم لا يُحاربون الحياة بمفردهم.
العشّاق يجدون في آخر منتدى للشطرنج هذا، الفسحة الأكثر ملاءمة لتمضية ساعات الحب الأولى فيها.
البدايات، في منتدى الشطرنج، تُشبه النوادر المُترنحة بين دفتي كتاب الحب.
وهؤلاء الذين إحتضنهم المنتدى إيام الصبا، يجلبون أولادهم اليوم ليتعرفوا إلى “بابا نويل شارع طومسون” الذي صادف ذات يوم الاسطورة روبين وليامز في إحدى نزهاته الطويلة في المدينة.
كان “أبو عماد” يزور إبنه الذي غادر لبنان باكراً بحثاً عن منزل لم يجده في موطنه.
أراد عماد أن يُخبر وليامزأنه، “أيام القصف” والجنون اليومي في “بلد الغصّة”، وحدها مسلسلاته الكوميديّة التي كانت القذائف والإنفجارات زينتها الخلفيّة، كانت وسيلته إلى الضوء.
أراد أن يؤكد له بأنه بدّل حيوات عدة، بما فيها حياته.
ولكن الخجل منعه من الإفصاح عن مكنونات قلبه.
وضاعت اللحظة.
نظر وليامز بطريقة محببة إلى “أبو عماد” الوقور، والخارج من الاساطير وقصص آخر النبلاء، وإبتسم لعماد.
وأكمل طريقه نحو الإنتحار.
الوقت ظهراً في بيروت.
نيويورك تستيقظ وعماد يستعد للخروج من منزله ليقتحم حروب الواقع ويساعد المئات الذين يزورون المنتدى على خوض حروبهم حول رقعة الشطرنج.
“الرطوبة أكلتنا يا عماد والطريق إليك بعيدة”.
ولكن أخبارك تصل إلينا يومياً عبر مواقع التواصل الإجتماعي.
عماد خشان وقع باكراً في عشق مدينة يعدني بأنه، عندما يعبر عتبة الموت، سيسكنها شبحاً خيّراً يسير في شوارعها التي عرفتها بفضله، بهدوء الحكماء الذين فهموا فخ الحياة باكراً، وأهمية أن نعيشها كعائلة موحّدة، لكي نتغلّب على إبتسامتها المتعالية.
وأنا أضحك وأشعر بتلك السعادة التي نعبّر عنها عادة لدى دخولنا علاقة عاطفية بعد إنقطاع وعزلة، “بس إسمع أخبارو”.
عماد خشان يتحدث عن عتبة الموت، هو الذي بفضل إنضمامه شارع طومسون الشهير “متل هالإيام” من العام 1995، يُساهم في تبديل لون ثوب الوحدة الذي يرتديه كل من يدخل عتبة منتدى الشطرنج الأحير، فإذا بالجمل الترحيبيّة تنهال عليه. وسرعان ما يفهم بأن في طومسون ستريت يقطن آخر بابا نويل في العالم الحديث.
على الرغم من أن لا أحد يعرف عنوان منزله الحقيقي.
ولكن الإشاعة تزعم أن جرذان نيويورك الخطيرة، جنّدت نفسها في خدمته، وترافقه إلى أن يصل بأمان.
فهي بدورها تعرف تماماً أهميّة مبدأ الجماعة، وأن يكون لنا منزلنا، نحن الذين لا ننتمي إلى أي مكان.
والكاتب الراحل لا يمل من الهتاف:
“لم نخلق لنكون سعداء”.
وعماد يضحك بهدوء، ويهتف للرايح والجايي:
“يا أهلاً بكم في شارع طومسون. هنا منزلكم وإن كنتم في الواقع لا تعرفون معنى الكلمة”