خالتي هناء وحياتها غير التقليدية: سلسلة للفتيات الثائرات.
“وجدتها!” هتفتُ فجأةً بلا سبب، فيما كنتُ أشاهدُ التلفزيون يوم سبتٍ عاديٍّ مليءٍ بالبرامجِ التلفزيونيّةِ العاديّة…
ووعودٍ فارغةٍ كالنجومِ (أو ربما الغيوم) بإنهاء الفروض المدرسيّة التي لا تُشبه، على فكرة، الأشجارَ الضخمةَ التي تسكنُ مُخيلتي، نهارًا، وأنامُ على أغصانها الملوّنةِ مساءً.
نظرتِ الماما مُباشرةً في عينيَّ وكأنها تراني للمرةِ الأولى.
وقبل أن تُخرجَ من فمها الجميلِ المرسومِ بلونين مختلفين كلماتٍ وأسئلةٍ تُشبهُ، بأناقتها، الأمطارَ التي تتساقطُ بعدَ ظهرِ كلِّ يومٍ في المدينةِ التي أسكنُ فيها أحيانًا عندما أملُّ من يوميّاتي، هتفتُ مجددًا: “وجدتُها! ماما! وجدتُها!”.
إبتسمت الماما ابتسامتها الساحرةَ التي تنسابُ منها ومضاتُ التعبِ، وهمست بصوتِها “المبحوح” من كثرةِ “العياط” علينا أنا وأخواتي:
“يلّا يا صغيرتي المعجوقةَ بالحياة. هه! حدثيني عن آخرِ الاكتشافاتِ الخارجةِ من مخيّلتكِ الموسيقيّة”.
قفزتُ من مقعدي الورديِّ الصغيرِ واقتربت من الماما – وهي، على فكرة، أجملُ فتياتِ الكون – وغمرتها بشدّةٍ وكأنني أريدُ أن أنثرَ عليها ومِن حولها، مئات النجومِ والغيومِ والكائناتِ التي لا تُشبه، على فكرة، يوميّاتي المملّة، وتقطنُ مُخيّلتي المُسيّجة بطبقٍ أو ربما وعاء.
وقلتُ لها وأنا أنظرُ إلى زاويةِ الغرفةِ حيث لا شيء سوى الجدار:
“أولًا، أنتِ أجملُ فتاةٍ في الكونِ. وثانيًا، عندما أكبرُ، أريدُ أن أعيشَ تمامًا كخالتي هناء!”.
“أختي هناء؟ يا للمصيبةِ يا يارا الشقيّةِ التي تستطيعُ أن تُحوّلَ الحشراتِ الزاحفة، فراشاتٍ بأجنحةٍ بطعم الشوكولا! أختي هناء؟ من بين كلِّ الناسِ في هذا الكوكبِ الشاسع؟ ولا نستثني مخيّلتكِ المُزدهرةِ بالورودِ والقصص؟”
صاحتِ الماما بأسلوبٍ دراماتيكيّ يفيضُ بحركاتٍ مبالغٍ فيها في اليدين وتعابيرِ الوجه.
“نعم يا ماما. خالتي هناء ولا أحد سواها”.
أجبتُها وأنا مُستغرقةٍ في أحلامِ اليقظةِ التي تنتظرني كلَّ يوم، هناك، في زاويةِ الغرفةِ حيث لا شيء سوى الجدار.
“وهل نستطيعُ أن نفهمَ يا “ست يارا” ما الذي يجعلكِ تختارينَ أن تعيشي يومًا ما كخالتكِ هناء التي لا تنتمي إلى أي مكانٍ، وستُجنِّنني بأفكارها الطفوليّةِ التي لا تليقُ بسنواتها الخمسين؟”.
قبّلتُ الماما على خدِّها الأيمنِ و انسابت كلماتي من فمي أو ربما من مخيّلتي المُسيّجةِ بحديقةٍ مصنوعةٍ من البلدانِ وبعض أحلام:

“خالتي هناء لا تخافُ من أحد.
ولا تُقلّدُ أحدًا.
ولا تغارُ من أحدٍ.
وهي تُدافعُ عن الحيواناتِ الشاردةِ وتُطعمها عندما تجوعُ، وتغنّي لها عندما تشعرُ بالحزن.
كما تحضنُها بين ذراعيها عندما تشعرُ بالخوف.

خالتي هناء لا تُدافعُ عن نفسها عندما يطرحُ عليها الناسُ أسئلةً فضوليّةً، يا ماما الجميلة.
وآه! كم يطرحُ عليها الناسُ أسئلةً فضوليّةً يا ماما.
هي، على فكرة، لا تهتمُّ بما يقوله الناسُ عنها:
لماذا لم تتزوجي يا هناء؟
لماذا تضحكين بسهولةٍ وتقولين كلَّ ما يخطرُ في بالكِ، يا هناء؟
من سيهتمُّ بكِ عندما تشيخينَ يا هناء وأنتِ لم تُنجبي الأولاد؟
هل صحيحٌ أنكِ تؤمنينَ بالحبِّ في هذه السنِّ المتقدّمةِ يا هناء؟”
خالتي هناء تهزُّ كتفيها وتضحكُ بحرارةٍ وكأنها سمعت قصيدةً جديدةً لكاتبتها المفضلة “ساحرة نادرة”، زوجة المليونير “محيو شفّاطة”.
تغمزني، في كثيرٍ من الأحيانِ، وتهمسُ في أذنيَّ وكأنها تُشاركني “شيْ سر دفين”:
“يارا، بدأتُ بكتابةِ قصةٍ جديدة.
يارا، علّمتني جدتكِ فرفورة أمس وصفةَ “غاتوه” جديدةٍ لنجرّبها معًا.
يارا، الأسبوعُ المقبل، سآخذكِ وصديقتكِ المُتمرّدةِ الجميلة، ناديا، إلى مطعمٍ جديدٍ اكتشفته أخيرًا مع جدكِ زيّان. القطايف عنده يا يارا تُنسيكِ رتابةَ الأيامِ وتُدخلكِ كوكبَ الأحلام.
يارا، لقد تعلّمتُ أغنيةً جديدةً سأغنيها لكِ في أقربِ وقتٍ ممكنٍ – يعني عندما ترتاحُ أوتارُ صوتي المُرهقةِ من كثرةِ التدريبات –
كما تعلمين، يا حبيبةَ خالتكِ، أنا أنجزُ كلَّ شيء عالأصول.
يارا، حوّلتُ الغرفةَ الصغيرةَ التي كانت، ماضيًا، مساحةَ تخزينِ الطعامِ، استوديو للرسمِ لأنني اكتشفتُ أنني ماهرةٌ في مزجِ الألوان.

يارا…
“آه!!!! كفى يا يارا!” هتفت الماما وهي تضحكُ ضحكتها الرنّانةَ التي تُنسيني رتابةَ الأيام.
“إن لم تتوقفي، سأقررُ أنا أيضًا أن أعيشَ كخالتكِ التي لا تنتمي، هناء… أكيد عندما أشيخُ وأرسلكِ وأخواتكِ إلى الحياة”.
غمرتُها مُجدّدًا ونثرتُ من حولها وعليها النجومَ والغيومَ والكائناتِ العائمة في فضاءِ مخيّلتي وأحيانًا في زاويةِ الغرفةِ حيث لا شيء سوى الجدار.
همستُ في أذنها وكأنني أنقلُ إليها بعضَ أسرارِ خالتي هناء التي لا تنتمي إلى أي مكانٍ:
ماما! أنتِ لن تشيخي أبدًا. وأنتِ، على فكرة، أجملُ فتاةٍ في الكون”.
وفي هذه اللحظةِ بالذات، سمعنا جرسَ البابِ يدقُّ عشراتِ المرات وبسرعةِ البرقِ وبإلحاحِ الزمان، وصوتُ خالتي هناء يترددُ صداه في كلِّ مكان:
“يارا! إفتحي بسرعةٍ.
لن تصدّقي آخرَ اكتشافاتي الأدبيّة.
إفتحي يا يارا.
سنقرأ معًا آخرَ قصةٍ للكاتبِ الشهير: “أديبٌ لا يشيخ”.
يارااااا عنوانُ الكتابِ: “لا تبحث عن المال! أمزج الألوان!”.
تنهدتِ الماما باستسلامٍ وقالت بأسلوبها الدراماتيكيّ وكأنها تتحدثُ مع نفسها:
“يا لحظّكِ المشؤومِ يا سمسوم. بدلَ الكارثةِ، في حياتكِ يا صديقتي، كارثتان”.
هنادي الديري